الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدْ أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [18: 12] إِلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَهُ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ {مَنْ} بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ فَسَوْفَ تَعْرِفُونَ الْفَرِيقَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الدَّارَ (الدُّنْيَا) لَهَا. قَالَ: وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ (بِكَسْرِ الذَّالِ) مُحِقٌّ، وَالْمُنْذَرَ (بِفَتْحِ الذَّالِ) مُبْطِلٌ اهـ.وَأَقُولُ: إِنَّ غَايَةَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَرُوحَهُ الْإِحَالَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِقَهْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَ هَذَا شَيْئًا لابد أَنْ يَرَاهُ جُمْهُورُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيُنِهِمْ فَيَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ بِهِمَا مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ، وَلَا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ عَاقِبَةُ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ هِيَ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ عَاقِبَةَ مِنْ كَفَرَ بِهِ وَنَاوَأَهُ هِيَ السُّوءَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا السَّبَبِ بِفَاصِلَةِ الْآيَةِ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أَيْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا أَعْيَتِ الْمَرْءَ أَسْبَابُهُ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِي هَذَا وَحْدَهُ. وَأَمَّا مَا عُرِفَ سَبَبُهُ فَيُطْلَبُ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَسْبَابِ وَمُسَخِّرَهَا هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31: 13]- فَهَذَا شَرُّ الظُّلْمِ وَأَشَدُّهُ إِفْسَادًا لِلْعُقُولِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ- فَيَلْزَمُهُ إِذًا سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [82] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ فَلَاحُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِالْأَوْلَى مُنْتَفِيًا بِشَرْعِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الْعَادِلَةِ، انْحَصَرَ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا لِرُسُلِ اللهِ وَجُنْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ أَوَّلًا كَأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ؟ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ نَصَرَ أَصْحَابَهُ عَلَى أَعْظَمِ أُمَمِ الْأَرْضِ وَأَقْوَاهَا جُنْدًا وَأَعْظَمِهَا مُلْكًا وَأَرْقَاهَا نِظَامًا كَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ؟ ثُمَّ نَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَشَعْبٍ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَلَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا النَّاسَ وَصَارَ حَظُّهُمْ مِنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ نَحْوًا مِمَّا كَانَ مِنْ حَظِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ مِنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ لِلنَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، بَلِ انْحَصَرَ الْفَوْزُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ. وَالْعَدْلِ وَالنِّظَامِ وَنَرَى كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِمْ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ قَطُّ بِنَصْرِ مَنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ. وَإِنَّمَا وَعَدَ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُقِيمُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَلْقَابُهُمْ. إِذَا نَازَعَهُمُ الْبَقَاءُ مَنْ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَوِ النِّظَامِ مِنْهُمْ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [14: 13، 14] وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْبَحْثِ غَيْرَ مَرَّةٍ.قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ {مَكَانَاتِكُمْ} بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَكَانَةِ أَلَّا تُجْمَعَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِفَادَةُ أَنَّ لِلْكُفَّارِ مَكَانَاتٍ مُتَفَاوِتَةً، لِتَعَدُّدِ الْبَاطِلِ وَوَحْدَةِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ {تَكُونُ} بِالْفَوْقِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الْعَاقِبَةِ لَفْظِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ كَتَأْنِيثِهِ، وَفِي حَالِ الْفَصْلِ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا.وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ اقْتِرَانُ سَوْفَ بِالْفَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُرِكَتِ الْفَاءُ فِي آيَةِ هُودٍ [11: 93] لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [11: 91] إِلَخْ. فَهُوَ إِخْبَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ مَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ دُرَّةِ التَّنْزِيلِ. اهـ.
يعني أرجال أم نساء. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135]والمكان هو الحيز الذي يأخذه جسم الإِنسان؛ فكل كائن له مكان، إن وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثانٍ، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يسع إلا واحدًا، وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط، ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد.وترى ذلك أيضًا في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا أن خرج الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن.و{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول الله: اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو أثبتوا على ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا؟؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أيضًا: فلن يكون ثباتكم مانعًا لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإِيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 135]{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} وله تعطي دلالة إلى أن الإِيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل عليهم، وساعة ترى اللام اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون. اهـ.
|